الحضارة الإسرائيلية



يظن البعض أن الدولة الإسرائيلية، التي باتت معترفاً بها دولياً أكثر من الدول العربية والإسلامية مجتمعة، أنها بلا قانون لانتهاجهاً العنف ضد الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين كما مارسته على العراقيين والمصريين في وقت سابق، إلا أن هذه الدولة بها من القانون والدستورية ما يغلب قدرات الدول المذكورة أعلاه، فكلما تأملت الموقف التشريعي الإسرائيلي تجد انهم يفهمون الواقع المحلي والإقليمي والعالمي بإمتياز فهم يؤمنون بمقولة أن "الغلبة للٌوي" ربما أكثر مما يؤمنون بالله العلي العظيم.

كلماتي لا تحمل أية تلميحات للصهيونية ولا اليهودية أو غير ذلك، فعندما قلت لفظ "الحضارة الإسرائيلية" نهرني وشتمني بعض الأصدقاء والمقربين مني، حتي وقفت مع نفسي أتساءل عن مدي صحة تعبيري وهل هو مجازي أم واقعي؟، لكني توصلت أخيراً لأن حضارتهم غير حضارتنا التي نبكي عليها والدليل لدي أننا كمصريين وعرب ما الذي أنجزناه ويمكن أن يقال عنه أنه إسهاماً في الحضارة؟ وماذا أنجزت دولاص مثل اليابان والهند وماليزيا واندونيسيا ومقاطعة مثل هونج كونج بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 وحتي الان، فهناك من هذه الدول من أنجز ما لم نفكر حتي في إنجازه في فترة زمنية لا تتخطي الثلاثين عاماً، أياً كانت الأسباب لعدم تفكيرنا وليس التنفيذ حتي، فإننا أثبتنا تأخرنا فكريا قرابة المائة عام على الأقل فمعدلات التنمية الحقيقة والجوهرية اختفت من الساحة، ولا أقبل من يخرج ويقول أننا أنجزنا كثيرا في البنية التحتية وخلافه من الكلام الهزيل التي يشبع جاهل أو شخص فقير حقيقي، وليس مجتمعات عربية بما فيهم مصر التي تتميز بثراء مادي ومعنوي مهما قال الجاهلون.

الولايات المتحدة ربما نشأت حقيقياً منذ أكثر من مائتي عام لكنها سبقت العالم بأثره بحوالي ألفي عام ومن يقول أنها ستتأخر نتيجة ثغرات قاتلة في النظام الرأسمالي وما أعلنته من صراع الحضارات والحرب الصهيونية العالمية بمسمي "الحرب على الإرهاب" فإن كلها مصطلحات واهية لا واقع لها، لكن هذه الدولة بالفعل أنجزت الكثير مما يفترض أن نقوم به كمصريين بما لنا من قاعدة حضارية عريقة وننمي حضارتنا ولا نتركها "محلك سر" حتي لا نتأخر مثلما حدث بالفعل، ويستفيد منها غيرنا ويتقدم علينا ويجعلنا تحت حذائه!.

الحضارة الأمريكية ليست وهماً فالحضارة هي أن تؤسس قواعد صارمة وحاسمة لا يخالفها من يعيش في الكيان الجغرافي كما يجب على الحضارة أن تساهم في الحياة الإنسانية بالاختراعات والاكتشافات العلمية والطبيعية ومشاركة المجتمع العالمي بكل ما أنجزته من ثقافة واقتصاد ونظم سياسية واجتماعية ونفسية ومعمارية وفنية متنوعة، ولم يعرف احد اساتذة الحضارة هذا المفهوم على أنه البكاء على الأطلال أو الاستمتاع لأغنية الراحلة أم كلثوم "الأطلال" أو ربما "النواح" على الموتي في الأعياد والمواسم أو تخليد ذكري فرعون أو زعيم حتي نتذكر ما انجزه دون أن نظهره، فلدينا قاعدة عظيمة جداً، هي إحباط وقتل الأحياء وتكريم الموتي، ربما هذا هو مفهومنا الحديث عن الحضارة والذي نريد أن يشهده تاريخنا لذلك نحارب العلم والعلماء وننكل بهم أينما كانوا، وفي المقابل نجعل من رموز الرياضة والدين شخصيات عامة حاكمة بأصواتها وبتصريحات الإعلامية بينما حصول العلماء على الجوائز لا نعرف عنه سوي لو حصل عالماً على جائزة نوبل فقط، والطريف في حصول مصريين على جائزة نوبل أن الأديب الكبير نجيب محفوظ لم يحصل على الجائزة سوي بعدما تبنت دور نشر عالمية رواياته عن طريق بعض الأصدقاء المقربين له، أما في حالة الرئيس السادات فكانت الجائزة بمثابة رشوة سياسية عالمية لحماية إسرائيل ذلك الكيان الذي مازلنا نصر أنه ليس دولة_حتي وإن كانت مغتصبة_، أما حالة الدكتور أحمد زويل فهو لم يأخذ الجائزة لأنه مصري بل لأنه وجد دولة تتبناه وتعطيه الجنسية الأمريكية وتمنحه تمويلاً مالياً ضخماً على الرغم أنه لم يكن معروفاً أو نجماً تليفزيونياً، وأخيراً الدكتور محمد البرادعي الذي ما إن حصل عليها حتي تجاهلته غالبية وسائل الإعلام المصرية، وهو الأخر مزودج الجنسية، ولم يحصل عليها تكريماً لمصريته بل لدوره عالمياً، ولم يكن غريباً أن من منحوه الجائزة لم يكونوا متأكدين انه مصري لأنهم عرفوه وعاش وسطهم أكثر من ثلاثين عاماً كنمساوياً.

إذن لماذا نغضب من دولة كإسرائيل تحترم علمائها وتدعمهم مالياً ونفسياً وتساعدهم بكل ما أوتيت من قوي، ونفرح بدولاً لم تحترم طفلاً يقتل في سبيل شبراً من أرضها دون أن ترشق من قتلوه كما يقول المثل الشعبي بـ"ماء النار"؟.

اغضب أيها القارئ، فإن كنت في دولة تحترمك فإحترمها وإن لم تكن لا يسعك سوي أن تبكي مثل النساء وتشق ملابس مثلما فعل أجدادنا في الجاهلية لأننا من المنتظر أن نعود إليهم أو نموت بـ"حسرتنا" وخسارتنا معاً.

لاشك أن حديثي موجع ومؤلم في نفس الوقت، فلغتنا العربية لا نتكلمها بشكل صحيح، وملابسها القومية تخلينا عنها بكل سهولة، وعلمائنا إتخذناهم سخرياً، حتي الدين دخل لعبة الحياة التي يختلط فيها الحق بالباطل والمسماة بالسياسية والاقتصاد، وأصبحت الراقصة رمزاً وطنياً والعالم "فضيحة مستخبية"، ويجب أن نبقيها كذلك، هذا هو الفرق بين من يريد أن يبني حضارة اليوم والمستقبل ومن يريد بكل ما أوتي من ضعف! أن يهدم حضارته أجداده كانه ينتقم من عار ما فعلوه.

إسرائيل تسعي بقلب صادق وعقل واع لتحقيق ما نفشل فيه كل يوم، وهو ترسيخ اللغة العبرية كلغة عالمية متعرف بها ويتم تدريسها في كل أنحاء العالم بما فيه الدول العربية، كما أصبح دور النشر ووسائل الإعلام بها نافذة ومؤثرة في العالم، وأصبحت دولة يرتادها كل من يريد أن يحصل على علم من كبار العلماء في العالم فهي منبر للعلماء مهما كلفها الأمر من مصاريف، فليس لديها فساد بالحجم الذي في أماكن أخري من العالم، والأهم أن لديهم هدف وحيد وهما صرحاء في الإعلان عنه وهو "تدمير العرب والإسلام"، ومن ضمن النجاحات الكبيرة التي استطاعت هذه المجموعات البشرية والاقتصادية والاعلامية الاسرائيلية العالمية هي اقناع العالم وعلى رأسه الولايات المتحدة منذ سنوات بترديد مقولات، على الفور، كخطة عمل على شاكلة أريحا أولاً ثم غزة أولاً ثم خرائط طريق تتخللها تفسيرات مثل المستوطنات باقية، مبادلة الأرض، القدس عاصمة موحدة لـ "إسرائيل"، وهذا كله يتزامن ويتناسق مع نشاطات لجان أميركية ووسطاء أميركيين، ولا نزال على هذه الحال منذ عشر سنوات على الأقل.

الوحيد الذي استطاع أن يفهم الرأس اليهودية في إسرائيل هو الرئيس الراحل محمد أنور السادات حين عقد معهم معاهدة كامب ديفيد في المنتجع الأمريكي الشهيرة، والتي أعقبتها مقاطعة عربية كبيرة، اما الآن في العرب يتحاكون بحنكة والرؤية بعيدة المدي التي انتهجها السادات فراحت تشكر في تصرفاته، لتعود حركة المقاومة الاسلامية "حماس" بانتقاد النظام المصرب بكل مؤسساته حتي الحساسة لدرجة وصلت في تصوري للـ"اغتصاب عن بعد"، فكما رفضت مصر أي تدخل في شئونها منذ خروج الاحتلال على يد الضباط الأحرار عام 1952 فيجب أن ترفض أى تدخل في شئونها، بعد ان أعلنت غضبتها على العلم والحضارة لأن التحكم السياسي والاقتصادي هو الذي بقي، فبالعلم تتقدم الشعوب وليس بالسياسة فأي عاطل يستطيع أن يفهم في السياسة فهي لغة "النصب على العقول" وكل ما يمكن فهمه منها أنه باطل يراد به حق وأن من يدخلها من "المحترمين" يجد نفسه قد تحول بشكل أحياناً يكون إيجابي لمصلحته هو فيصبح دون عناء "نصاب" وكلما اجتهد استطاع أن يترقي ليزيد حجمه في المهنة الجديدة التي تعتقد على شبكات العلاقة المشبوهة والتي يجب أن تمتزج بسائل أحمر وبعض السلحة البيضاء والنارية لتحصل في النهاية على حافز مادي رفيع المستوي، وهو ما يجيده الإسرائيليين وكثير من العرب الكبار!.

مصطفي النجار

كاتب شاب

الحضارة الإسرائيلية الحضارة الإسرائيلية Reviewed by fun4liveever on November 21, 2010 Rating: 5

No comments:

Powered by Blogger.