الوطن | شروط الجنة | نادين البدير

الوطن | شروط الجنة | نادين البدير


على الشرفة فى الفجر سكون وتراتيل وأذان وهواء صيف بارد. باقٍ على بدء الصوم دقائق، مشهد تحتشد به الذكريات، لا أريد أن أنشغل بالذكريات، خاصة أن المشاهد التى تتزاحم الآن لم تكن كلها مفرحة، بل أريد أن أكتب. سأنشغل بالكتابة لأنها مهرب الأيام.
دق جرس الباب. أتأفف، فالجميع نائمون وعلىّ النزول لفتح الباب. إنها العاملة التى تساعد أمى بالطهى. تأتى مبكرة جداً ولا أعلم متى تنام أو تستيقظ، لكنها تصل وجه الفجر دائماً. فتحت لها الباب وأنا أبتسم. سيدة أربعينية بدينة، أعتقد أنها لم تفكر يوماً بالامتناع عن الأكل ولا علاقة لها بمسابقات الجمال والتنافس بين النساء. فستانها يكاد يتفتق من كثرة الدهن والشحم المحيطين بخصرها لكنها تبتسم، وحينها تتحول لامرأة جميلة جداً، أسألها عن الحياة فتخبرنى قصصاً مفجعة. عائلتها كلها تحتمى خلفها، بمن فيهم الشبان. تنفق عليهم جميعاً من الراتب القليل الذى تجمعه من خدمة المنازل. لديها سبعة أطفال، لا أعلم سبباً وجيهاً لإنجابهم فى أسرة تعانى ضوائق مالية لا حصر لها. أسرة تتصرف دون تخطيط أو تفكير. ولديها حماتها المريضة، أعرف حماتها جيداً؛ لأنها كانت تساعد فى الطهى قبلها، لكنها لم تكن تبتسم مثلها. ولديها مسئولية زوجها المقعد وأبنائها ولديها إخوتها ووالداها، كل هذا وتبتسم. نظرت فى المرآة وحاولت أن أعقد مقارنة بين ابتسامتى وابتسامتها، ترى أيهما الأصدق والأعمق، من أين لها هذه الابتسامة؟
تذكرت مقالاً كنت كتبته أثناء زيارتى لسريلانكا عنوانه «من الجنة» هناك تعجبت وأنا أتجول بين الناس والفيلة والأفاعى والثعابين من الابتسامة العميقة التى تحيط بى فى تلك الغابة. ليس فى المكان حضارة ولا أى تقنيات مثل التى أعيشها هنا، ليس هناك دور أزياء شهيرة ولا تنافس على الأجساد والأزياء أو ماركات السيارات. يركبون دراجة، يركبون فيلا، يسيرون حفاة ولا يكترثون ولا يخضعون لشروط الدنيا، أقصى طموح الفرد الحضور لمنطقتنا والعمل عامين لتجميع ثمن قطعة أرض يبنى عليها بيته، هذا هو حد ينتهى عنده الصخب والجنون والحلم والطموح والتهافت على المادة. والكل مبتسم فى الغابة، فكيف يبتسمون؟
أهذا هو شرط الجنة أن تجتمع متع الطبيعة مع زهد المطالب لتملأ السعادة المكان؟ شرط معاكس للرسم التقليدى للجنة، الذى يصورها مجرد مكان تلبى به المطالب.
أذكر أننى كنت أرتعد من منظر الأفاعى، وأذكر أن سيرلانكياً قال لى: «إننا لا نخشاها فهى لا تؤذى بل الإنسان هو الذى يؤذى أخاه وهو من عليك أن تأمنى حذره لا الثعبان».
وتذكرت قريباً لى. بسيطا جداً. سعيدا جداً. لديه عدد من الأبناء يفوق العشرة وأحفاده تجاوزوا رقم العشرين ووفرته المادية قليلة لكن الضحكات والقهقهات تملأ منزله. ضحكات نابعة من قلوبهم بدليل أنها تصل لقلبى حين أسمعها.
وأنا أبتسم كثيراً لكنها بسمة حافلة بالأفكار، أبتسم ورأسى منشغل بأشياء كثيرة. فهل علىّ وضع حد لشروط الدنيا كى تصدر البسمة من أعماقى، هل يجب أن تتملكنا القناعة والزهد فى الحياة لنحيا سعداء. ما هذا الشرط المؤلم؟
أعشق أوجاع الطموح، لكنى أغبط القانعين السعداء أغبطهم للحظات فقط كالتى أعيشها الآن حيث أحاول الانسجام مع الفجر. بعدها أعود لأيامى الدنيوية بشروطها الصاخبة وأعود لمراقبة المبتسمين من الأعماق لكنهم ساكنون.. لا يتحركون. لا يتغيرون أو يتقدمون. راضخون لكل شروط الجنة.
الوطن | شروط الجنة | نادين البدير الوطن | شروط الجنة | نادين البدير Reviewed by fun4liveever on July 26, 2012 Rating: 5

No comments:

Powered by Blogger.